لعلي لا أبالغ إن أكدت على أن ضغوط العمل أصبحت جزءٌ لا يتجزأ من طبيعة أي عمل نلتحق به أو نمارسه، ودعني أذكرك بتلك اللحظات التي لا أظنك نسيتها أبدًا، وكيف تُنسى وآثارها ما زالت بارزة تشعر بها كلما مررت بيدك على ذاكرتك، أتذكر ياصديقي عندما جلست أمام مديرك في العمل لأول مرة في حياتك، تلك الجلسة التي أجريت فيها مراسم المقابلة الشخصية، وفي ختام اللقاء وبعد استعراض خبراتك السابقة ومهاراتك وإنجازاتك الشخصية، سدد المدير نظراته إلى عينيك بشكلٍ مباشر _وذلك لسبب لم تفهمه حينها_ وسألك بصوتٍ عميق وبابتسامة هادئة عن مدى قدرتك على تحمل ضغوط العمل؟!.
كانت إجابتك نموذجية _لا تُنكر فكلنا أجبنا الإجابة نفسها_ لكن كثيرًا ما يصدم المرء بعد فترة من استلامه مهام عمله، ويتساءل بينه وبين نفسه: ياإلهي!! هل اجابتي النموذجية التي كانت في الواقع إحدى الاقتباسات التي حفظتها عن ظهر قلب من أحد منتديات الإنترنت والتي دفعتها على مهل وبعد برهة من ادعاء التفكير مصحوبة بابتسامة ثقة آملاً في أن يظن المدير أن الإجابة هي إحدى بنات أفكاري التي ولدت توًا فور سماعي لسؤاله. هل كانت تلك الإجابة مقنعة إلى هذا الحد الذي أقنع المدير أني أملك قدرة تحمل تفوق تلك القدرة التي يملكها خليط من عنصري التيتانيوم والفولاذ، حتى يلقي على عاتقي كل تلك المهام والتكليفات!!
في الواقع فإن إجاباتنا النموذجية تكون لسببين رئيسيين، هما: الرغبة في تخطي مقابلة العمل بنجاح، لأنه من المؤكد أن التصريح بعدم القدرة على تحمل ضغوط العمل سبب كفيل بصرف نظر المدير عن قبول طلب التوظيف. ثانيًا: أننا في العادة نتجاهل أن ضغوط العمل ظاهرة طبيعية تصاحب أي عمل، وهي في الواقع ظاهرة صحية إلى حدٍ كبير وخاصة إذا كانت داخل النطاق الإيجابي. فالمرء منا تحت ضغط العمل الإيجابي يستطيع تحقيق العديد من الفوائد الكبيرة حيث تشكل الضغوط الإيجابية دوافع رئيسية للإنجاز للإبداع والابتكار. وتوصف ضغوط العمل بأنها إيجابية إذا كانت معتدلة أما إذا تجاوزت هذه الضغوط مستوى المعقول بحيث كانت حادة بما يفوق تحمل الموظف فإنها تكون ضغوطًا سلبية سالبة تسلب الكثير والكثير من الموظف والمنظمة على حدٍ سواء.
جديرٌ بالذكر فقد حظيت ضغوط العمل بمساحة كبيرة في أدبيات الإدارة لما لها من تأثير نافذ على الأفراد والمنظمات، فعلى مستوى الأفراد تقود ضغوط العمل إلى القلق المستمر، والإحباط الدائم، وصولاً إلى الاكتئاب، وربما يصل الأمر إلى الاحتراق النفسي، وهو حالة من الاستنزاف البدني والانفعالي نتيجة التعرض المستمر لضغوط عالية، ويتمثل في مجموعة من المظاهر السلبية كالشعور باللامبالاة وفقدان الاهتمام بشؤون العمل أو حتى الاستمرار في العمل. كما أنه غالبًا ما تتخطى ضغوط العمل مقر العمل لتصل إلى منزل الموظف فتهدد استقراره الأسري، مما يجعل الموظف أمام خيارين لا ثالث لهما، إما ترك العمل للحفاظ على حياته الأسرية أو الاستمرار في العمل على مضض حتى تتوفر فرصة عمل أفضل مع محاولة التعايش المؤقت والتأقلم قدر الإمكان مع المشاكل والاضطرابات الأسرية. وعلى مستوى المنظمات ينبئ تعرض موظفي المنظمة إلى موجات مستمرة من الضغوط السالبة إلى فشل المنظمة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية والجوهرية. كما تكون مهددة بحدوث فجوة ونقص في الخبرات في حال تسرب الموظفين _وبخاصة الأكفاء منهم_ لعدم قدرتهم على تحمل الضغوط المتواصلة أو التكيف معها.
وفي هذه السلسلة سنتناول إشكالية ضغوط العمل بشكلٍ تفصيلي، كما سنتناول استراتيجيات إدارة تلك الضغوط، وكيفية تخطيها.
نبيل محمد سعيد عبدالعزيز