تدور مادة القيم في اللغة على معنى الاعتدال، والصلاح والاستقامة، والاستواء، والمواظبة، والملازمة، والمداومة، والسيادة، والنهوض والانتصاب، والتعديل وإزالة الاعوجاج، والثبات على الشيء. وفي القرآن الكريم وردت مادة (ق و م) بصيغها المختلفة إحدى وستين وستمائة مرة كلها تدور حول المعاني المشار إليها سابقًا.
بيد أن العلماء والباحثين قد ذهبوا في تعريف القيم اصطلاحًا على مذاهب شتى، وزاد من الصعوبة أن هذا اللفظ له دلالات متداخلة ومتشابكة في شتى ميادين النشاط الإنساني. وكما يستحيل أن يلم الإنسان بجميع ميادين النشاط الإنساني في مصطلح واحد كذلك استحال أن يكون لمصطلح القيم معنىً دقيقًا جامعًا مانعًا. لهذا تناوله كل باحث من خلال زاوية ومجال بحثه، فجاء المصطلح متعدد المعاني متباين الألفاظ وإن ظل في كل المجالات وثيق الصلة بالإنسان.
ففي مجال الدراسات الاجتماعية سعى الكثير من الباحثين لوضع تعريفًا اصطلاحيًا مناسبًا للقيم، فجاء في قاموس علم الاجتماع أن القيم هي: تصور واضح أو مضمر يميز الفرد أو الجماعة ويحدد ما هو مرغوب فيه بحيث يسمح لنا بالاختيار من بين أساليب متغيرة من السلوك والوسائل والأهداف الخاصة بالفعل. وذهب الباحثين المعنيين بالدراسات التاريخية إلى تعريف القيم بأنها هي: السلوك الخلقي الذي يميز جماعة خلال فترة معينة. أما علماء الاقتصاد فرأوا أن القيم هي: كل ما يسد الحاجة. أما الفلاسفة فذهبوا إلى أن القيم هي: الصفة التي تجعل من الشيء أمرًا مرغوبًا فيه ومطلوبًا في المجتمع، وهي مثل عليا وانفعالات من الإنسان نحو غايات يصنعها بحرية، وهي بذلك جزء واسع من علم الأخلاق والفلسفة السياسية. وجاء في الكتاب التعريفي لشركة الرواد لبناء القيم (إحدى شركات مجموعة الرواد) أن القيم هي: مفهوم مجرد يشير إلى ما يتبناه الفرد أو المنظمة أو المجتمع كمعتقد يؤمنون به، ويطبقونه، ويدافعون عنه.
ونخلص من تلك الإشكالية إذا قمنا بوضع التعريفات الاصطلاحية لما وضعت له باعتبار أن الاصطلاح _ كما عبر عنه الجرجاني في معجم التعريفات_ هو عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول. فهو لفظ معين بين قوم معينين.
والعرب قديمًا لم تستخدم كلمة القيم للدلالة على المعاني الاصطلاحية التي شاع استخدامها بين الناس الآن، بل كان يستخدم للدلالة عليها كلمة الأخلاق، وحين نرجع إلى تراثنا الإسلامي نجد أن القيم كانت حاضرة وبقوة في مؤلفات المسلمين على مر التاريخ، فالفقهاء والمحدثون والمفسرون كانوا وهم منشغلون ببيان الأحكام وتمييز الحلال عن الحرام لا يقصرون النظر على الجانب الفقهي، بل يمدون أبصارهم إلى أبعد من ذلك وأشمل فاهتموا بالمقاصد والمألات والتي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالقيم.
كما عملوا على وضع منظومات قيمية أخلاقية متكاملة ومترابطة، فكتب ابن المبارك (181هـ) كتاب (الزهد والرقائق)، وعلى دربه سار الإمام وكيع بن الجراح (197هـ) والإمام أحمد بن حنبل (241هـ)، ووضع الإمام البخاري (256هـ) كتابه (الأدب المفرد)، وألف النسائي (303هـ) كتابه (عمل اليوم والليلة)، وغيرهم الكثيرين والكثيرين.
واستمرت جهود علماء المسلمين في التنبيه على أهمية القيم والأخلاق وأثرهما في تزكية النفس وصيانة المجتمع جيلاً بعد جيل، على مر العصور وتتابع صروف الدهور، فما جفت أقلامهم؛ ولا ضعفت عزائمهم؛ ولا استكانت هممهم، ومؤخرًا وبعد أن تربعت القيم على قمة هرم التربية والتعليم، وجدت القيم لها مكانة لافتة في الإدارة باعتبارها إحدى أحدث الوسائل والآليات لبناء ودعم وتعزيز تطوير أداء المنظمات، وباعتبارها ضرورة حتمية لتحقيق الأهداف الجوهرية الاستراتيجية. وهو ما سنعرج عليه بالتفصيل في مقالاتنا القادمة بإذن الله تعالى.
نبيل محمد سعيد عبدالعزيز