«التواجد معًا هو البداية... البقاء معًا هو التقدم... العمل معًا هو النجاح». هنري فورد
العمل الجماعي؛ هذه الجملة البديعة تحمل بين أحرفها العديد من الدلالات الإيجابية، التي تتنوع بين الشراكة والتعاون؛ والترابط والتكامل؛ والتألف والتآزر؛ والإبداع والابتكار؛ والإلهام والإنجاز. وإلى جانب كل هذه المعاني فالعمل الجماعي تفرضه طبيعة الحياة ومقتضياتها في التفاعل والتواصل، وليس من قبيل المصادفة أن يُصَدر العلامة ابن خلدون مقدمة كتابه الزاهر "تاريخ ابن خلدون" بهذا النص: (الباب الأول من الكتاب الأول: في العمران البشري على الجملة. وفيه مقدمات؛ الأولى: في أن الاجتماع الإنساني أمرٌ ضروري. ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع، أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو معنى العمران). وفي إطار بيانه عن أن مصلحة البشر لا تتم إلا من خلال جماعة يقول ابن خلدون: (... لأنا قد بينا أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم).
«كثرة الأيدي تخفف من عبء العمل». مثل إنجليزي.
تشير الإحصاءات إلى شعور 90% من الموظفين أنهم أكثر ثقة عند العمل بشكل جماعي. ومن اللافت أن العمل الجماعي لا يقف عند حدود ما سجله المثل الإنجليزي المشار إليه سابقًا من أن العمل الجماعي أو بحسب تعبيره (كثرة الأيدي) تخفف من عبء العمل. بل جرت العادة على أن اجتماع أشخاص من تخصصات علمية مختلفة، وخلفيات معرفية متباينة، واتاحة المجال لتلاقح أفكارهم؛ وتكامل رؤاهم وتصوراتهم، ينتج العنصر النبيل والمعدن النفيس الأكثر طلبًا في زماننا؛ وهو الابتكار.
والعمل الجماعي الذي ينتج الابتكار لا يكتفي أفراده بمجرد وضع خبراتهم وأفكارهم وآراءهم في بوتقة واحدة ثم مزجها معًا، بل يجدون سبلاً فاعلة لإحداث تكامل بين وجهات نظرهم المختلفة، وذلك من أجل تكوين رؤية واضحة صادقة متكاملة، ووضع احتمالات غير مسبوقة؛ وهذا هو العمل الجماعي.
وبالرغم من أن العمل الجماعي هو الإطار العام لفرق العمل، فهو لها بمثابة الثمرة للشجرة، فإن الكاتبة إيمي سي إدموندسون في إطار سعيها لوضع خيط يفصل بينهما، تطرح في كتابها (العمل الجماعي من أجل الابتكار) سؤالاً خَلّاَبًا يثير الدهشة إلى جانب إثارته للكثير من الفضول، وهو: ما السبب في تسميته العمل الجماعي بدلاً من أن نقول ببساطة بناء فريق عمل فعال؟ ثم تبدأ في الإجابة عن السؤال بشكل مباشر فتقول: السبب يكمن في أن الابتكار عملية كثيرة التغير لا تتبع مسارًا محددًا، مما يعني أنه ليس من الممكن دائمًا معرفة ماهية المهارات التي ستحتاج إليها في الفريق بالضبط مقدمًا، أو معرفة المدة التي ستحتاجها فيها، وهو الأمر الذي يُصعب عليك تخطيط وبناء فريق ثابت ومُعد جيدًا قبل بدء المهمة.
ثم تطرح إيمي سي. إدموندسون مثالاً رائعًا تستشهد به على أطروحتها فتقول: في أي غرفة طوارئ عادية بأي مستشفى، تعتمد نتائج علاج المرضى على التنسيق المتلاحم والتواصل الفائق بين أطباء من تخصصات مختلفة، ربما لا يعرف بعضهم أسماء الآخرين في بداية مباشرتهم للحالات؛ هذا هو العمل الجماعي. وتضيف: أن العمل الجماعي العالي الجودة يمزج بين سرعة التعرف على الأشخاص _ وعلى خبراتهم ومهاراتهم وأهدافهم_ وبين الاستماع إلى وجهات نظر الآخرين، وتنسيق الجهود، واتخاذ قرارات مشتركة.
وفي السياق نفسه ترى الأستاذة دعاء العواودة أن اختلافًا بينًا يكشف بشكل جلي اختلافًا خافيًا عن الكثيرين بين فريق العمل والعمل الجماعي، فهي ترى أن العمل الجماعي ينطلق من الإلهام المشترك لمجموعة أفراد وبادروا إلى تحقيق هدفهم وقضيتهم التي يؤمنون بها سويا، كما أن الأفراد في (فريق العمل) عرضة لتلاشي ذواتهم واندثار هويتهم الفردية على حساب ازدهار هوية الفريق ككتلة مصمتة. خلافًا لجماعة العمل والتي يندمج فيها الفرد دون ذوبان فيبقى محافظًا على مكونه وسماته التي ميزه الله تعالى بها عن غيره. وتؤكد على أن الجماعة تعني بالفرد الذي شكل الجماعة، أما الفريق فهو يعني بالفريق نفسه بمكوناته دون الالتفات للأفراد.
وتحتاج هذه الإشكالية إلى مزيد من التأمل، سنفرد له مقالاً تاليًا بإذن الله تعالى، يعقبه آخرون يتناولون أسس العمل الجماعي ومرتكزاته؛ وأطره ومنطلقاته، وأخيرًا عوامل خلله وتعثره؛ وضعفه واضطرابه.
نبيل محمد سعيد عبدالعزيز
المراجع